وفي الثلاثين من يوليو أي بعد أسبوع من رحيل الأسطول الإنجليزى وصل الأسطول الفرنسي إلي الإسكندرية وتمكنت القوات الفرنسية من النزول إلي المدينة واحتلالها وتم تثبيت محمد كريم حاكماً لها، و الجنرال "كليبر" قائداً عليها. وأصدر نابليون منشوراً أعلن فيه أنه جاء إلي مصر كصديق للعثمانيين وليحد من سيطرة المماليك وأنه جاء لينصر المصريين وأنه يحترم الإسلام وأنه وجنوده قد أسلموا. وقد ساعده علي ذلك أن الثورة الفرنسية قد أسقطت الدين المسيحي كدين للدولة وتتساوى أمامها كل الأديان. وكشف المنشور ما بذله بونابرت في فهم نفسية المصريين.
وتمكن بونابرت من هزيمة المماليك الذين قابلوه بقيادة "مراد بك" عند شبراخيت، ووصل بقواته إلي مشارف القاهرة حيث خرج أهلها عن بكرة إليهم لملاقاته واصطفوا في صف يمتد من إمبابة حتى أهرام الجيزة (عشرون ألف مصري ومعهم ثلاثة آلاف مملوكي وبعض فرسان البدو من الأعراب)، وكانت قوات بونابرت لا تتعدى ثلاث آلاف جندي. وقد أمر نابليون جنوده بتجنب نيران المدفعية وتمكن من الهجوم علي قلب الجيش المصري ووصل إلي عمق القوات حيث لم تكن هناك احتياطيات للقوات المملوكية لمواجهته، وتمكن من دخول القاهرة والسيطرة عليها. واستدعي بونابرت علماء الأزهر وشيوخ المصريين وشكل مجلس الديوان من عشرة من العلماء يرأسهم أكبرهم. ومهمته مساعدة الفرنسيين في حكم القاهرة. وشكل لكل مديرية من المديريات ديوان مماثل لديوان القاهرة. ثم شكل ديوان عام لمصر كلها من ثلاثة من العلماء وثلاثة من التجار وثلاثة من الأهالي. وكل هذه الدواوين وأن كانت استشارية إلا أنها فتحت عيون المصريين علي المشاركة في الحكم وإدارة شئون أنفسهم.
وفي أول أغسطس عام 1798 وصل إلي الإسكندرية نلسون بأسطوله الإنجليزي وتمكنت سفنه من اختراق الأسطول الفرنسي المرابض عند أبو قير، وعزله عن الشاطئ ثم تمكن من تدمير الأسطول الفرنسي وتدمير سفينة القيادة "نصف الدنيا" وحال دون وصول أي إمدادات تأتيه من الإسكندرية. وكان "لموقعه أبي قير" التى تدمر فيها الأسطول الفرنسي أثاراً شديدة علي الفرنسيين:
1- عزل الحملة عن فرنسا. 2-تحطيم أمال نابليون في الوصول إلي الهند. 3- تحديد نتيجة الحرب لصالح الإنجليز فيما بعد ذلك. 4- أظهرت الوجه الحقيقي لنابليون حيث استبد بالمصريين لتعويض خسائره. 5- فرض الحصار البحري الإنجليزي للشواطئ المصرية.6- تشجيع الأتراك علي التحالف مع الإنجليز لطرد الفرنسيين.
عمقت معركة "أبو قير البحرية" من نظرة الاحتلال في نفوس المصريين بالنسبة للفرنسيين وخاصة بعد ما لجأ نابليون إلي فرض المزيد من الضرائب لكي يعوض خسائره. وقام بالانتقام من محمد كريم حاكم الإسكندرية متهما أباه بمراسلة مراد بك في الصعيد لمهاجمة الفرنسيين.
واستحدث الفرنسيون عادات اجتماعية علي غير رغبة المصريين منها هدم أبواب الحارات لدواعي الأمن، واختلاط الأولاد والبنات وخروجهم معاً، وزيادة الخمرات وبيوت الدعارة. مما أدي بالمصريين للثورة ضد هذه العادات وأيضاً ضد الفظائع التى يرتكبها جنود الحملة وذلك في أكتوبر 1798 فيما عرف بثورة القاهرة الأولي. وقرر بونابرت دك القاهرة بالمدافع، مما أدي إلي إخماد الثورة بعد يومين من قيامها ونكاية في المصريين سمح لجنوده بدخول "الجامع الأزهر" بالخيول بحجة القضاء علي المعتصمين بالمسجد. ولكن هذه الثورة وأن كانت قد انتهت بهذا الشكل إلا أنها أذكت الروح الوطنية في نفوس المصريين، وأكدت الاختلاف البين بينهم وبين الفرنسيين وساعدت علي انتشار المقاومة في الأقاليم.
وفي محاولة من نابليون لاسترداد شيء من هيبة الفرنسيين أمر قواته بالاستعداد لغزو سوريا، وأستولي علي "يافا" في مارس عام 1799 وأسر ثلاثة آلاف أسير من العثمانيين، وبسبب قلة الإمكانيات أمر بقتلهم جميعاً في مذبحة مروعة يقشعر لها الجبين أظهرت الوجه القبيح للمدنية الفرنسية الزائفة. واتجه "نابليون" إلي "عكا" ولكنها استعصت عليه فأمر بحصارها، ولكن نتيجة تذمر المصريين في القاهرة وظهور الأسطول الإنجليزي أمام الشواطئ المصرية وتفشى الأمراض بين قواته، أمر بفك الحصار والعودة إلي مصر.
وهاج المصريون ضد الحملة الفرنسية واشتدت المقاومة ضدهم. ولكن نابليون سرعان ما أخمدها وانتصر علي القوات التى ارسلها السلطان العثماني بقيادة "مصطفي باشا" وانهزمت هذه القوات فيما عرف بمعركة "أبي قير البرية". فكانت هذه هي المرة الأولي التى جاء فيها محمد علي إلي مصر وكاد أن يموت غرقاً عندما ألقى بنفسه في الماء مع من ألقوا بأنفسهم، نجاة من الفرنسيين للوصول إلى الأسطول الإنجليزي المرابض أمام الإسكندرية.
ونتيجة للاضطرابات التى حدثت في فرنسا وسوء الأحوال هناك قرر نابليون أن يغادر مصر سراً. وتولي أمر الحملة من بعده الجنرال كليبر الذي بادر بعقد اتفاق مع العثمانيين فيما عرف "باتفاق العريش" فيما بينه وبين الصدر الأعظم "ضياء باشا" ينص علي انسحاب القوات الفرنسية بكامل أسلحتها من مصر. ولكن قائد الأسطول الإنجليزي "اللورد كيت" رفض الاتفاق واشترط لتنفيذه أن يعتبر كل الفرنسيين أسرى حرب.
وكان هذا الموقف سبباً في فشل الاتفاق، وبادر كليبر فهاجم العثمانيين عند عين شمس علي مشارف القاهرة وانتصر عليهم في مارس عام 1800م وأخذ يطارد فلولهم حتى الحدود السورية. ولكن بعض الأتراك تمكنوا من دخول القاهرة، مما سبب تحريكاً للشعور الوطنى والدينى لدي المصريين فثاروا فيما عرف بثورة القاهرة الثانية في 20 مارس عام 1800م واستمرت الثورة بزعامة "عمر مكرم" والتف حوله كل المصريين حتى المماليك بقيادة "إبراهيم بك" و"حسن بك الجداوي". واضطر كليبر إلي إحراق القاهرة بعد أن فشل في قصفها المستمر لمدة تزيد عن الشهر واستمرت النيران مشتعلة لمدة ثمانية أيام مما سبب خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات لدي المصريين. وقد أثار موقف كليبر هذا "سليمان الحلبي" الطالب الأزهري السوري مما دفعه إلي اغتياله، وحوكم الحلبي وحكم عليه بالإعدام هو وثلاثة من زملائه المصريين الذين كانوا يدرسون معه في الأزهر. وتولي الجنرال عبد الله مينو - الذي كان قد أسلم وتزوج مصرية وكان أكبر الجنرالات الفرنسيين سناً-قيادة الحملة. ولكنه قرر الانسحاب من مصر وخاصة بعد وفاة مراد بك حليف الفرنسيين في الصعيد ونزول الإنجليز في الإسكندرية. وتمكن من عقد اتفاق مع الإنجليز علي أن تنسحب بمقتضاه القوات الفرنسية من مصر علي سفن إنجليزية.
موضوع: بدايات التاريخ المصري الحديث والمعاصر ( 5 ) 
الجمعة مارس 20, 2009 8:48 pm
