الآثار الأمنية لغزوة بدر الكبرى .. منظور جغرافي ...
مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
الآثار الأمنية لغزوة بدر الكبرى
الآثار الأمنية لغزوة بدر الكبرى
منظور جغرافي
د . الأصم عبد الحافظ أحمد الأصم
مركز البحوث والدراسات جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية 1426 هـ
تهدف هذه الورقة إلى معالجة بعض الآثار(1)الأمنية لغزوة بدر الكبرى(2)(ملحق 1) من منظور جغرافي حضاري (3)موظفة لذلك المنهج الوصفي التاريخـي(4)لأن طبيعة البيانات المتوافرة حول الموضوع يناسبها هذا المنهج وما يلحق به من أساليب .
وقـد استفاد الباحث من العديد من الدراسات ذات الصلة بموضوعه. (1)
وتنطلق الدراسة في معالجتها للبيانات من مفهوم مركزي أساس ألا وهو مفهوم الأمن الشامل الذي يمكن أن نتعرف على أهم متغيراته من خلال(الشكل 1 ) عرف الأمن بأنه: الصورة العقلية لحالة مجتمع تسوده الطمأنينة والعيش في حالة توافق وتوازن أمني ، أو " أنه المناخ الاجتماعي الصحيح الذي يسمح لمسارات التنمية بالاطراد المستمر " أو " أنه الطمأنينة على المقاصد الضرورية "(2).
وغاية ما هنالك أنه ليس من تعريف جامع مانع للأمن ، بيد أن أرجح تعريف له من وجهة نظري هو : « إحساس الفرد والجماعة البشرية بإشباع دوافعهما العضوية والنفسية، وعلى قمتها دافع الأمن بمظهريه المادي والنفسي والمتمثلين في اطمئنان المجتمع إلى زوال ما يهدد مظاهر هذا الدافع المادي ، كالسكن الدائم المستقر ، والرزق الجاري ، والتوافق مع الغير ، والدوافع النفسية المتمثلة في اعتراف المجتمع بالفرد ودوره ومكانته فيه ، وهو ما يمكن أن يعبر عنه بلفظ السكينة العامة )).
حيث تسير حياة المجتمع في هدوء نسبي ، ومع ازدياد وتعقد المشكلات المؤثرة في سلامة الإنسان واستقرار المجتمع شاع مؤخراً استخدام مصطلحات الأمن التخصصي مثل: الأمن الغذائي ، والأمن الاجتماعي ، والأمن السياسي ، والأمن العسكري ، والأمن البيئي ، والأمن الثقافي ، والأمن الصحي وغيرها, للدلالة على كل متطلب من متطلبات الأمن بمعناه الواسع .
وكل حلقة من حلقاته المترابطة والتي من مجموعها ينتظم عقد مفهوم الأمن الشامل »(2).
فإن تحقيق الأمن بمعناه الشامل يعتمد على عناصر ومقومات عدة مترابطة ومتداخلة يمثل كل منها ثغرة إذا لم تسد وتؤمن أمكن من خلالها اختراق الأمن القومي لأي دولة أو مجموعة دول والإضرار بمصالحها .
وفي هذا الإطار ، إطار الأمن الشامل بأبعاده المختلفة سوف نحاول التعرض للآثار الأمنية لغزوة بدر من منظور جغرافي كما نُص على ذلك في مفتتح هذه الورقة .
ويناسب هنا الإشارة إلى أنه إلى ما قبيل غزوة بدر كانت مجتمعات الجزيرة العربية بعامة ومجتمع الحجاز بخاصة قد انتهت إلى شكلٍ من أشكال الاستقرار والتوازن الأمني ( Security Balance ) بوجوهه المختلفة : عقدية واقتصادية وسياسية إلى غير ذلك , نتج هذا التوازن عن عمليات التفاعل المكاني (3)بين مجموعة كبيرة من العناصر الطبيعية والبشرية الإيجابية والسلبية المتشابكة والمتداخلة في آن وأهمها :
موقع الجزيرة العربية من العالم وواقعها الطبيعي (3).
الرصيد التاريخي للأمم العربية البائدة والباقية(1).
التنظيم الاجتماعي القبلي والطبقي (2).
الاحتكاك والتواصل الاقتصادي والسياسي والحضاري مع القوى العالمية المجاورة والبعيدة(1)
ما تبقى من الهدي السماوي ( الحنيفية و اليهودية والنصرانية )(2)
الاعتقاد في الجن ، والكهانة والوثنيات العربية والصابئة إلى غير ذلك(1)
هيكل القيم والأعراف العربية(2)
النشاط الرعوي والزراعي والتجاري والصناعات اليدوية وتقنيات الري وفنون المعمار(3)
العلوم العربية والأدب الجاهلي(1)
10.البحار العربية (1)
وَلّد التفاعل المكاني لهذه العناصر مجتمعة نمطاً مكانياً حضارياً وأمنياً مقبولاً ومتوازناً ، كما سلفت الإشارة إليه ، بيد أنه كانت تشوبه اختلالات واهتزازات هنا وهناك ، أسباب تلك الاختلالات والاهتزازات عديدة وعلى رأسها الصراعات القبلية التي ربما تطورت إلى حروب طويلة مدمرة مثل حروب البسوس ، وداحس والغبراء ، والفجار وسواها . يفاقم من أثر هذا أن القبائل الرئيسة في الجزيرة وقتئذ كانت تناهز السبعين عداً يقيم ثلثها في الحجاز( جدول رقم 1 وملحق رقم 2 ) الإقليم الذي انطلقت منه الدعوة وتأثر أكثر من غيره بنتائج غزوة بدر إيجاباً و سلباً.
وبدخول الإسلام إلى باحة التفاعلات المكانية هذه لم يكن الجسم المكاني المجتمعي العربي بخصائصه الحضارية والأمنية مستعداً لقبوله؛ لأن من طبائع الأجسام طرد الأعضاء الغريبة عنها كما هو معروف ، ولما كان الإسلام أمراً جديداً مختلفاً ومتميزاً ومتناقضاً مع معظم متغيرات الساحة العربية على مستوى شبة الجزيرة أو إقليم الحجاز حدثت المواجهة .
أهم وجوه الاختلاف يتمثل في الأصل السماوي للدين، ودعوته إلى التوحيد الخالص، ونبذه العرقية والعنصرية، وبناء منظومته كلها على أساس عالمي يرتفع على الإقليمية والمحلية .
لهذا وقع الصدام وتخلخلت الصورة الأمنية بل ارتجت ارتجاجاً شديداً ، وكانت بدر أهم المسارح المكانية لهذا الصراع الذي تنقل قبلها في مسرحين محليين ( مكة المكرمة والمدينة المنورة ) ومسرح إقليمي عالمي ( الحبشة ) ومسارح فرعية أخرى تمثلث فيما سبق بدر من غزوات (الأبواء، وبواط ، والعشيرة ، صفوان ) (4), ولا خلاف في أن السبب الجوهري لبدر هو تحريز الأمن العقدي والفكري لكل من الطرفين المتنازعين : المسلمين والمشركين ، المسلمون يدافعون عن دينهم الجديد(2)
جدول (1) : أشهر القبائل والمجموعات العربية واليهودية في الحجاز أيام غزوة بدر (2هـ)
القبائل العربية القبائل والمجموعات اليهودية
- قريش . بنو قريظة
- ثقيف . بنو النضير
- هوزان . بنو قينقاع
- هزيل . يهود خيبر
- جذام . يهود فدك
- بلى . يهود أيله
- غطفان. يهود وادي القرى
- بنو كلاب بن ربيعة يهود تيماء
- الأوس .
- الخزرج .
- بنو عذرة .
- سليم.
- خزاعة.
- جهينة.
- بنو سعد.
والمشركون يدافعون عن وثنيتهم وما والاها من عقائد منحرفة ( النصرانية واليهودية المحرفتان ) والصائبة والمجوسية وغيرها(1)( شكل 2 ).
ومع ذا فإن السبب المباشر للمعركة وثلاث من الغزوات الأربعة التي سبقتها هو تهديد الأمن الاقتصادي لقريش من خلال اعتراض عير أبي سفيان ، واستخدام الأمن الاقتصادي المائي في إطار الإستراتيجية العسكرية للمعركة (حبس الماء )(2).
ومهما يكن من أمر ففكرة تهديد الأمن الاقتصادي وبخاصة الأمن الغذائي – الطعام والماء – ليست جديدة .
وفي سورة قريش إشارة لذلك ... ( الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف ). القرشيون أنفسهم كانوا هم السباقين لاستخدام ذات الإستراتيجية ضد المسلمين ( حصار بني هاشم في الشعب) ، والأمر ذاته يصدق بل هو السبب الرئيس لجل الصراعات العربية في الجاهلية ، فالقتال على الكلأ والماء هو صورة من صورة تهديد الأمن الاقتصادي .
يشهد بذلك بعض ما وصل إلينا من أشعارهم : قال عمرو بن كلثوم :
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
والغارة لأهداف اقتصادية كانت مما يفخرون به ، كما أن العديد من مسلكيات الشعراء الصعاليك في الجاهلية إنما كان فيها شيء من تهديد الأمن الاقتصادي ، ليس ذلك فحسب بل إن التعفف عن الغنائم كان معدوداً من مكارم الأخلاق .
قال عنترة :
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وإذا نظرنا إلى المسلمين ( 314 نفساً ) لم يكن تحت يدهم سوى 70 بعيراً يتعاقبونها(1)لأحسسنا كم كانوا فقراء وأن العنصر الاقتصادي قد يدخل ضمن دوافع التحرك بعد العقيدة والإيمان بالنصر ، ولا ينبغي أن يفوتنا ما كان من حنق المسلمين على قريش التي أجبرتهم على ترك ديارهم وأموالهم .